حرب المواقع : المجتمع السياسي ينقلب على الشعب


حرب المواقع : المجتمع السياسي ينقلب  على الشعب
بقلم محجوب النصيبي - جويلية 2014

لاكثر من نصف قرن عاش التونسيون شأنهم شأن كل الاقطار العربية في ظل تغير اشكال التبعية من الاستعمار العسكري المباشر الى الاستعمار الاجتماعي و الاقتصادي و شهدت عملية الانتقال تركيزا مكثفا على تثبيت شكل التبعية بتغيير جينات المجتمع من منتج لابسط الضروريات الى مستهلك لها و عملت قوى الهيمنة على استكمال ما بات يعرف بالداروينية الاجتماعية غير ان مصدات الامان التي تشكلت في رفض الشكل التبعي الجديد نمت من خارج الحزب الحاكم الذي اختار لنفسه تسمية دستوري ليلقي على أفعاله صفة القداسة  الممتدة في نضالات قيادته السياسية  ضد الاستعمار  و ليجعل ما دون ذلك من نضالات الاشخاص و الجهات و الاقاليم غير ذي شأن ما لم يكن صادرا في مرسوم موقع من اصحاب السعادة و الفخامة و السمو فكانت صوةر الزعيم الدولة الذي جعل  الدولة والمجتمع و القانون  في خدمته اذا الشعب يخوض اللهيب بروحه و يموت و يفنى في خدمته  و اذا الخادم ينقلب الى مخدوم اما  خدمة الشعب غير موجودة ي القاموس حتى ان عديد المدارس في الجهات الداخلية بناها الاباء و الاجداد باستجلاب الحجارة على ظهور الدواب و بالعمل الدوري في مجموعات متناوبة ولا زالت تحمل الى الان اما اسماء العروش او العائلات و حتى الافراد الذين بنوها لتأتي الدولة بعد ذلك و تتم الجزء السهل من العمل، و يتواصل الامر مع الواجهات الجديدة لنفس النظام التابع المنبت عن بيئته المنفصل عن شعبه و يستحيل الامر الى  شبكة فساد تشكلت على مدى السنوات الماضية نافذة فاعلة تملكت كل مسارات الفعل الاجتماعي و الاقتصادي و احتكرت الفعل السياسي تصورا وتشريعا و تنفيذا فاصبحت ترى في كل من يخالفها او ينتقدها خطرا يتهددها  فاختارت القمع و التنكيل و الاختطاف و القتل و الدفن تحت جنح الظلام و اختارت زرع  الخوف و تصويره على انه امن للمواطن و امان للبلد و اصبح السجن الصغير أرحم من السجن الكبير و عرّيت النساء واغتصبت الحرائر و استبيحت الديار ليلا و لم يرحم المجتمع بعضه بعضا حتى الاطفال...انه الجحيم العربي ...و رغم الحصار المروض على الثقافة و على الكتاب و رغم كل الحروب المعلنة و الخفية على المنشورات و الكتابات و رغم الترويج لثقافة رسمية يراد لها ان تسد منافذ الثقافة غير الرسمية فقد طالت الايدي اخر الكتابات و عانقت الافكار الجديدة روح الشباب الفتي لتمتد الثقافة في ظل الواقع القمعي امتدادا افقيا معوضة الامتداد العمودي لها  فكان الانضغاط و قابلية الانضغاط و تشرب مزيد الضغط هو الحل الذي رضيه الضمير الجمعي للمجتمع ...لتتراكم الاحداث حتى كان الربيع ذات 17 ديسمبر بمذاقات مختلفة :ثورة الدواخل على المركز
لم تكن ثورة الدواخل عن المركز الا تأكيدا على حقيقة يرفض السياسيون اليوم الاعتراف بها وأخذها بعين الاعتبار:التغيير لا يمكن ان يحدث من داخل النظام؟؟؟فالنظام قد استحال الى مسخ قادر على ابتلاع كل من يقترب منه و استيعابه ثم اجتراره و اعادة صياغته...و سواء كان في السلطة او المعارضة فهو وليد تلك الحقبة يفكر بالياتها و يخطط وفق  تصورت اصلاحية من داخل السيستام لقد امتلك السيستام حتى العقول فاصبح خروج  من كان يتعامل معه مسايرة او معارضة صعبا بل مكن لهم الا المطالبة ببعض الاصلاحات السياسية هنا و بعض التعديلات الدستورية هناك لمنافسته في انتخابات غير متكافئة القوى مع ضم مطلب مهم يعني كل التونسيين هو مطلب العفو التشريعي العام ...هكذا كان المركز بمن فيه يفكر ..كانت مطالبه بحسب ما يتوفر له من هامش حركة ارتضاها لنفسه و ان كان في ثوب المعارضة الكرتونية او حتى الراديكالية منه التي اختارت الاختفاء و المواجهة في لحظات مختارة بدقة و عناية ضمانا لسلامتها أو التي اختارت الهروب بحثا عن ملاذات امنة تاركة خلفها قواعدها تقاسي ما يقاسيه التونسي البسيط و ان اختلفت تفصيلات المعاناة....وكان الداخل هو المتصدر للمشهد...و ينسى الاغلبية سيدي بوزيد 1990 و الانتفاضة المنسية(جانفي 1990) و الجنرال لا يزال في بدايات حكمه حين ثار ابناء الجهة و استهدفوا مركز الولاية و منزل الوالي كسرا و تخريبا بعد ان استشهد من ابنائهم ثلاثة لتراخي الدولة ي انقاذهم من مياه الفيضان و ينسى الاغلبية ما انتفاضة سليانة على الجنرال بعد ذلك باشهر...ارهاصات تغيب و تحتاج الى فتح دفاتر التاريخ ...ليكون الحوض المنجمي 2008 و ما تبعه من احداث في فريانة و بنقردان .ضربات موجعة تهزل اركانا مشيدة ثم...17 ديسمبر
و قد كانت هذه اللحظة فوق الجميع لا يعرف شيفراتها الا النزر القليل ومن رفع شعار"يسقط نظام السابع فاشي و عميل و تابع ذات جويلية ملتهب من سنة 2010 ..هنا كانت ضخامة المطلب و كان السقف واضحا كتلة تعبر عن الشعب ولا تمثله ..تنطق بلسان كل تونسي و ان لم ينطق...الم يقل احدهم في احدى الاجتماعات على سبيل التهكم موجها خطابه الى بن علي" يا سيدي انت ديمقراطي  و تقدمي...نحنا فدينا من الديمقراطية ..نحبو شوية استبداد..سيّنا اش يهمك فينا"...لقد مل التونسيون فشل مشاريع الدولة و سلسلة الهزائم الثقافية و السياسية و كره القشرة "المتسامكة" لبنى اجتماعية و الغطاء "المتصالب" لشبكة علاقات اقتصادية قوانينها موضوعة لفئةقليلة تستفيد و تحتكر حتى القطرات المتساقطة التي تسمح بها بنية  النظام الرأسمالي...كان السقف مرتفعا...هل يقدر مجتمع سياسي تربى و شب على فكرة "بالروح بالدم نفديك يا زعيم" فلم اشتعل الرأس منهم شيبا اصبح شعارهم "كبرنا و تعبنا و لم نحصل على شيء اليوم ان لنا ان نختم حياتنا ولو ببيع انفسنا لنرتاح في اواخر ايامنا" هل يقدر هكذا مجتمع على تبني شعار الهدم من اجل البناء؟؟؟لم يعد لهم نفس طويل ليعيدوا البناء ...سنوات قليلة محسوبة من اعمارهم لم تعد تسمح لهم بذلك...فلماذا اذا هذا السقف العالي؟؟؟هنا كانت الالتفافة بل الانقلاب على الشعار المركزي "الشعب يريد اسقاط النظام ..استغل المجتمع السياسي لبسا كبيرا في الاذهان يعود الى فاعلية المشاركة في الحراك الثوري مشاركة او التحاقا او بناء وهي مواقع ثلاثة مؤثرة في المشهد السياسي...هذا اللبس مرده سؤال "هل الثورة هي ثورة على النظام السياسي الحاكم ؟؟؟ ام هي على الدكتاتور الفرد و علاقاته ؟؟؟ام هي ثورة على الدولة كلها؟؟؟
الاسئلة الثلاثة للمواقع الثلاثة..
فأما الذين بنوا الحراك و عايشوا ترفيع السقف و علموا لسنوات على رفع منسوب الحساسية من نظام الفساد و الاستبداد فهم مقتنعون بأن ما حدث هو ثورة على الدولة كلها بالتزاماتها و امتداداتها و ارتباطاتها وهم من المطالبين بفتح ملف وثيقة الاستقلال وهم الاقدر على تقديم صورة للدولة التي يحلمون بها ..تلك الدولة التي اساسها ثنائية الاستقلال و السيادة استقلالية القرار الوطني و سيادة العشب على مقدراته و قد كانوا من الرافضين لانتخابات 23 اكتوبر فهي ليست الا تشويه لمسار انتقالي و حرف لاولويات الشعب ... و أوكد الامور هو تأسيس  فلسفة حكم جديدة و نظام حكم جديد عبر اليات محاسبة واضحة تنطلق من  لحظة توقيع ما سمي ببروتوكول الاستقلال و تنتهي الى هذه الحكومة
و أما الذين ثاروا على الدكتاتور فهم الملتحقون بها وهم منافسوه الذين حرمتهم سطوته و جبروته و نهمه الشديد للسلطة و المال من ما يعتبرونه حقهم في البلاد  حقهم في السلب و النهب و تجميع الثروة من عرق الخدامة..هم اؤلئك اللصوص مع وقف التنفيذ و في احسن الاحوال هم اللصوص الذين اكمتووا بدفع الاتاوة الى زعيمهم كلما احس منهم "استكراشا" أو وقع نظره على ما بين ايديهم من "خير عميم" فكان ان اعتبروا ما حدث من ثورة الدواخل رصة للتخلص من "علي بابا" لكنهم اليوم يختصمون من يكون مكانه و ربما هم يتفاوضون و يحاولن الوصول الى توافق على شخصية لا تمنعهم "حق السلب و النهب"
واما الذين اعتبروها ثورة على النظام السياسي الحاكم  فهم الذين شاركوا في الحراك الثوري بعد ان قام المغامرون بتنفيذ المهمات الانتحارية فشاركوا فيها من منطق الغنيمة و ايمانا منهم ان الشعب انجز المهم وهو التخلص من رأس النظام  وما عليهم اليوم الا استغلال اللحظة لاكمال باقي المهمة وهي التخلص من ازلامه ..يريدون سفينة تونس كما هي ربانها منهم و طاقمها منهم و القيادة لهم و باسم الله مجريها و مرسيها ...حتى الكسور في جسمها قد يكفي الدعاء و التضرع لسدها و في اسوء الاحوال و بعد ان يستتب الامر لهم اثر اول رحلة و عند اول ميناء يمكن لهم ادخال بعض الاصلاحات و ربما سد تلك الشقوق و الكسور ببعض الورق او الخشب حتى يقضي الله امرا كان مفعولا ؟؟؟ مغفلين ان الامر فيه من الخطورة خطورة الغرق ما يجعل امكانية النجاة منعدمة كما نسوا او تناسوا ان المسلك الذي اختير لتونس لاكثر من نصف قرن  خطر جدا و لم يفرز الا الهزات و الازمات حتى غدت ازمات هيكلية بنيوية تكتونية لا ينع معها حل...وهم بذلك تحولوا الى قراصنة يريدون اختطاف منجز شعبي يكون لهم وحدهم من دون الناس بدل ان يكون لهم فيه مكان
و لكل ان يبحث عن الفئة التي ينتمي اليها  ومهما يكن من امر فان الفئات المسيطرة هي الثانية و الثالثة وهي التي تقود البلاد اليوم و تسعى الى انتخابات 26 اكتوبر وهي الفئات المتغلغلة في عصب الدولة نفوذا و تسييرا و كل غايتها تلوين النظام القائم  في الدولة المتواصلة منذ 1956  باللون التعددي لتضمن استمراريتها هل ستضمن استمراريتها فعلا ام انها تؤجل المواجهة الى ما بعد الانتخابات مواجهة لن تكون في صالح المجتمع السياسي و لن تحمي احدا...
 

للتعليق علي الموضوع




غرد لأصحابك في تويتر :)

شارك عبر جوجل بلس ;)


شير علي الفيس بوك ( )

علي تويتر
علي الفيس

تونس للصحافة و الاعلام كل الحقوق محفوظة لعام 2014