عمود حروب الظلّ الفقري!

عمود حروب الظلّ الفقري!
نبيل نايلي*

”مخاطر الإرهاب والشبكات الإرهابية ستستمرّ لبعض الوقت ولدينا خطة طويلة الأمد وهي ليست عسكرية فقط، فلا بد من الدخول في حرب أفكار بالمنطقة...حيثما وجدت مؤامرات وشبكات نشطة فسنلاحقها. “ الرئيس الأمريكي، باراك أوباما.

الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي ما فتئ يردّد لازمته المكرورة : "أمريكا لا يمكن أن تكون في حرب إلى الأبد"، مصرّا على أن الإهتمام العسكري بأفريقيا لا يعدو أن يكون ضرورة أمنية يختزلها في ما يسمّيه "ملاحقة للإرهابيين"، أضحى أكثر من أي وقت مضى يشدّد، أمام تصاعد العمليات السرية في أفريقيا، وسؤال المحلّلين الإستراتيجيين والعسكريين عن مغزى إهتمام البنتاغون بهذه القارة وتسارع وتيرة بناء القواعد، المعلن منها والمخفي، على أنّ "ملاحقة الإرهابيين في أفريقيا شي، وخوض القوات الأمريكية حروباً هو شيء آخر. "! نفي أوباما أو إنكاره يتعارض مع يورده تقرير النيويورك تايمز، The New York Times، لصاحبه، إيريك شميت، Eric Schmitt. تقرير يكشف أنّ وزارة الدفاع الأمريكية، تعتزم إستدعاء أفراد فرقة مشاتها الأولى، ممّن كانوا في العراق أو أفغانستان، بغية "تنفيذ ما يزيد على 100 مهمة لمكافحة الإرهاب في أفريقيا خلال العام المقبل." يتنزّل ذلك في إطار ما تصنّفه وزارة الدفاع الأمريكية "جزءا من إستراتيجية جديدة لتدريب وتقديم المشورة لقوات دول أفريقية في ملاحقة والتصدّي للتهديدات الإرهابية الناشئة والمخاطر الأمنية الأخرى" . تقرير الصحيفة يؤكّد أنّ "البرنامج الأول من نوعه الذي يعتمد على قوات من لواء مكوّن من 3500 جندى فى فرقة المشاة الأولى التابعة للجيش الأمريكى، تعرف بإسم "Big Red One"، دخل حيز التنفيذ عمليا، وذلك من خلال :
* نشر قناصة في بوروندي بالإضافة إلى 350 جندياً يجرون تمارين جوية وإنسانية في جنوب أفريقيا،
* إرسال وحدة إستجابة سريعة مؤلّفة من 150 جندياً إلى جيبوتي في منطقة القرن الإفريقي لحماية السفارات في الحالات الطارئة،
إستتئناسا بذات المقاربة وعملا بتعاليم هذه الإستراتيجية الجديدة، يكشف مسؤولو وزارة الدفاع الأمريكية أن البنتاغون خصّص ما لا يقلّ عن 200 مليون دولار كلفة لعقود إعادة تأهيل قاعدة معسكر لومونيي، Camp Lemonnier ، وتحسين شبكاتها الكهربائية وبناء منظومة متكاملة لمركز قيادة وتحكم وعمليات ومستودع للطائرات، ووحدات سكنية، وقاعة رياضة ومنشآت أخرى. ما سيؤهّلها لتكون المركز المحوري لمجموعة القواعد المحيطة بها، المعلن منها والخفي، (نواكشوط، مويتانيا، واغادوغو، بوركينافاسو، عنتيب، أوغندا، خليج ماند، كينيا، فيكتوريا، السيشيل، نزارا، جنوب السودان: أين تعتزم وزارة الدفاع الأمريكية نشر طائرات مراقبة واستطلاع بهذه المنطقة الحيوية والحساسة، عربا مينش، أثيوبيا: أين يقوم سرب من الطائرات دون طيار برحلات من أثيوبيا حتى الصومال،ثم معسكر لومونيي، بجيبوتي). يدخل هذا الإستثمار في إطار مشاريع بقيمة 1.2 بليون دولار تمتد على مدى ال25 سنة القادمة! مشاريع ستحوّل معسكر لومونيي من "معسكر الضرورة المتواضع"، حيث كان ينام مئات من عناصر القوات الخاصة داخل خيام، إلى "قاعدة المستقبل"، الضخمة والحديثة التي سينتشر فيها ما لا يقل عن 4000 عسكري ومدني ومتعاقد.
على الرغم من أن أغلب القوات المتمركزة في هذا المعسكر هي قوات تقليدية، Conventional، مختصة في تدريب العسكريين الأفارقة، فإنّ بعض المئات ينتمون إلى القوات الخاصة، يعسكرون في منطقة لها نظام حمايتها الخاص. لئن أحجم المسؤولون العسكريون الأمريكيون عن تأكيد أو تفنيد ضلوع فرق العمليات الخاصة هذه في عمليتي ليبيا التي أسفرت عن اعتقال القيادي في ”تنظيم القاعدة“، أبو أنس الليبي، والصومال، التي إستهدفت أحد قياديي "حركة الشباب الصومالية"، فإنّ وثائق البنتاغون لا تخفي أنّ هذه القاعدة تشكّل ما تسمّيه "عمود العمليات السرية الفقري، the backbone" التي تتم في أفريقيا وشبه الجزيرة. كما تصنّفها كإحدى أهم قواعد الطائرات دون طيار التي تنشط في الصومال واليمن. لا يزال عدد قوات العمليات الخاصة في تصاعد خصوصا مع حلول موسم جني خراج بؤر التوتر التي ساهموا في تأجيج نارها وضبط إيقاع لهيبها من ساحة إلى أخرى. مضافا إلى عسكرييها الذين يتولّون الإشراف على تدريب قوات أفريقية، تقوم وزارة الدفاع الأمريكية بإرسال 13000 من قواتها إلى إيطاليا، ليشنّوا هجمات خاطفة في الشمال الأفريقي "متى إقتضت الضرورة"، على أن "يكونوا على أهبة الإستعداد تحسّبا لأي طارئ"!
هذا غيض من فيض ما كشفه رودولف عطاء الله، Rudolph Atallah، مدير، وايت ماونتن للبحوث، White Mountain Research، شركة الإستشارات الأمنية، الذي عمل سابقا كمدير لقسم أفريقيا لمكافحة الإرهاب التابع للبنتاغون. وحين يعلن، دون مواربة العسكريين أو الأمنيين، "بما أن أفريقيا هي الواجهة والمركز بالنسبة لمقاربة وزارة الدفاع، فإنّ معسكر لومونيي سيكون كذلك"، نعي جيّدا لماذا تدفع وزارة الدفاع الأمريكية، في عزّ زمن شلل الميزانية والتقشّف وتخفيض الموازنة، ما لا يقلّ عن 38 مليون دولار سنويا ،كمعلوم إيجار للقاعدة!
في ظل التحلّل والتشظّي الأمني والكياني والسيادي اللّيبي والصومالي والمالي وتنامي قوة "بعبع الإرهاب" الذي يهندسون جيناته ويفرّخون تنظيماته، يستنسخونها إستئناسا بأطلس الموارد ومصادر الطاقة، وعملا بتعاليم الإستراتيجيات الكبرى، ضمانا للمصالح الحيوية، يوظّفونه متى شاؤوا، فزّاعة أو شمّاعة أو أداة أو ذريعة! فبؤر التوتّر الكامنة والمستعرة، التي تديرونها ولا يعملون على حلّها، تُشكّل ورقات ضغط وابتزاز ومساومات سياسية وأمنية، لليّ ذراع من تُسوّل له نفسه التنصّل من إلتزامات الأنظمة المخلوعة، وفرض وصاية جديدة تضمن ما كان مُؤمّنا، وزيادة، وذلك عبر فخاخ المساعدات والقروض وبرامج الشراكة والتدريب والتأهيل وشعارات الدعم والتبنّي التي تخفي تسفيه إستحقاقات الإنتفاضات الشعبية!
ولئن ظلّت وزارة الدفاع الأمريكية تبحث لها عن بلد يقبل بقاعدة للقيادة الأفريقية، African Command، بدل مدينة شتوتغارت الألمانية، فقد بات بإمكانها، بعد أن أوجدت الذرائع الكافية، على إمتداد أطلس بؤر النزاعات والحروب منخفضة الوتيرة، (Low Intensity Conflicts LIC)، بدءا بالصومال فجيبوتي فأوغندا، فجنوب السودان، فالنيجر، إنتهاء بليبيا "المحرّرة"، أن تفرض موقعها أينما شاءت، كرها أو طوعا!
كلاّ، لا يجانب أبايومي أزيكيوي، Abayomi Azikiwe ، رئيس تحرير البان-أفريكن نيوز واير، Pan-African Newswire، الصواب حين يصرّح قائلا: "يعتقد بعضهم أنّ تواجد الولايات المتحدة العسكري في أفريقيا من أجل شنّ حرب على الإرهاب، ولكننا نعلم، مستندين في ذلك على التاريخ، أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تقصد وجهة مُعيّنة إلاّ إذا كان ذلك يمثّل خدمة لمصالحها الحيوية والإستراتيجية...إن النشاط العسكري الأمريكي في أفريقيا يستهدف وضع اليد على الموارد الطبعية والمضائق الإستراتيجية، كما يرمي إلى منع الصين من تعزيز علاقاتها مع مختلف الدول الأفريقية." عين على النفط والغاز ورغبة في سحب البساط من تحت أرجل المستعمر الفرنسي ومحاولة إجهاض الإختراق الصيني من جهة والإلتفاف على إتفاقية الغاز الروسية الجزائرية، من جهة أخرى، وأخيرا وصل شبكة أصابع الكماشة العسكرية والالتفاف كليا حول هذا الجسد العربي المثخن، بإنتظار مشرط سايكس-بيكو الجديدة!
لا يغرنّكم قول العقيد الأمريكي روبرت لي ماجي، Lt. Col. Robert Lee Magee،"هدفنا هو مساعدة الأفارقة في حلّ مشاكل القارة دون حضور أمريكي بارز هناك"! ما حدث أخيرا، خلال غارات فرق قوات العمليات الخاصة الأمريكية، فى ليبيا والصومال، ليس إلا مقدّمة لمزيد من العمليات فالتغلغل الأمريكي في ظل حالة إنعدام توازن كامل ووضع عصي على التوصيف صارت فيه جغرافياتنا معلّقة! أما عن "حرب الأفكار" التي كان سيخوضها الرئيس الأمريكي ضدّ من يصفهم بالإرهابيين، فلا داعي للخوض فيها. جناب الرئيس مشغول بإعداد قائمات الموت للأسراب طائراته دون طيار!
وإذا كانت فضائح برنامج الأمن القومي الأمريكي التجسّسي، التي طالت الحلفاء والأعداء، دون أن يحرّك مسؤول عربي واحد ساكنا، فلن نسمع أحدهم ينبس ببنت شفة محذّرا أو محتجّا، أو في حدّه الأدنى، مقنّنا للبرنامج السرّي للطائرات دون طيار، وإرهاب الدولة وقائمات التصفية وتصنيف"إعتباطي، متعدّد وغامض ومتناقض المكاييل"لتنظيمات دون أخرى على أنها "إرهابية". وحده مُقرّر الأمم المتحدة الخاص بمكافحة الإرهاب، بن أمرسون، Ben Emmerson، من غرّد خارج السرب، حين دعا أخيرا إلى"رفع السرّية عن سجلاّت برامج الطائرات بدون طيار" وذلك بغية ما سمّاه "توفير الشفافية للعمليات التي أسفرت عن مقتل آلاف الأشخاص في جميع أنحاء العالم". دعوة هي أشبه بالصرخة في الوادي، لأن المشرف على البرنامج ليس إلاّ وكالة الإستخبارات الأمريكية، السي آي أييه، CIA، ولسائل أن يسأل متى كانت مثل هذه الهيئات تمارس أنشطتها "بشفافية"؟ ما يُحسب لأمرسون أيضا هو دعوته دولة الكيان الصهيوني وبريطانيا إلى أن "بكونا أكثر شفافية حول عملياتهما التي تتعلّق بالطائرات المُوجّهة عن بعد".
هل يذكر أحدكم قول أوباما تعليقا على عمليتي ليبيا والصومال، حين أشار إلى أفريقيا ك"مركز تجمّع لمن وصمهم بالإرهابيين"؟ من إستعصى عليهم فكّ شفرة لغة الرئيس الأمريكي الخشبية، فليصغ سمعا للجنرال راي أوديرنو، Gen. Ray Odierno، وهو يقطع الشك باليقين لمن يسوّقون لنا الوهم السيادي، حين يقول: "إنّ الهدف من هذا البرنامج هو أن نجعل قواتنا إقليمية، مُنتشرة، ومُشتبكة في كلّ مسارح القتال لمساعدتهم على تشكيل المسارح، وتثبيتها بغية تنفيذ وضمان إستراتيجية أمننا القومي."!!
متى ينتبه "صنّاع" القرار من نظم ما قبل، وما بعد "الربيع" إلى ما يُحاك لنا وما يُعدّ؟
صمت المغلوب على أمره، أم صمت المتواطئ؟ لا يشفع، لمتعلّل أو متحجّج ب"وضع إستثنائي"، السكوت على ما يجري وما يعدّ له إستراتيجيو ومخطّطو العسكرية الأمريكية، لأنّ تأجيل البتّ في مسائل بالغة الخطورة تتعلّق بأمننا القومي في لحظات التأسيس الأولى، لمن يعيشون لحظة "إنتشاء ثوري"، خيار المستجير من الرمضاء بالنار!

*باحث في الفكر الإستراتيجي، جامعة باريس.
للتعليق علي الموضوع




غرد لأصحابك في تويتر :)

شارك عبر جوجل بلس ;)


شير علي الفيس بوك ( )

علي تويتر
علي الفيس

تونس للصحافة و الاعلام كل الحقوق محفوظة لعام 2014